هل نُشاهد التاريخ أم نُصدّق السردية؟
عمان الان – د.علي النحلة الحياصات
الأعمال الدرامية التي تتناول التاريخ الإسلامي ليست مجرد محاولات فنية لإحياء الماضي، بل في حقيقتها أدوات ثقافية تشكّل الوعي وتعيد إنتاج المعنى. لا يمكننا أن نتعامل مع فيلم الرسالة أو مسلسل معاوية (علي سبيل المثال لا الحصر) بوصفهما عرضًا بصريًا عابرًا، بل كخطاب سردي يخاطب الذاكرة الجماعية الاسلامية، ويُسهم بوعي أو بدونه في بناء تصوراتنا عن الدين والتاريخ والهُوية.
في ليلة العيد، أعدتُ مشاهدة فيلم الرسالة على احدى القنوات الفضائية. وبينما تدفقت مشاهد الفيلم على الشاشة، تسرّبت إلى ذهني صورة قديمة لطفل في طابور مدرسي، يُقاد مع زملائه في طابور خلال سبعينيات القرن الماضي في مدينة السلط إلى سينما “نبيل” (تلك السينما الوحيدة التي كانت في المدينة) لمشاهدة العمل نفسه.
هناك، زُرعت في المخيلة صورٌ أولى للإسلام: حمزة البطل، هند المنتقمة، والرسالة كشعاع نور وسط ظلام الصحراء. كنت أظن أنني أشاهد التاريخ كما وقع، لكنني كنت أستهلك سردية درامية، لا حقيقة تاريخية. عند هذه النقطة، قفز إلى ذهني السؤال المحوري: هل كنا نقرأ التاريخ، أم نشاهد إعادة تشكيله بصيغة درامية؟
الدراما لا تعكس التاريخ، بل تؤولّه. وهي بذلك أكثر تأثيرًا من كتب التاريخ، لأنها تتوجه إلى الحس والخيال، وتمنح الشخصيات بعدًا إنسانيًا يجعلها أقرب إلى وجدان المتلقي. ولهذا السبب تحديدًا، لا أتعامل ألان مع هذه الأعمال بوصفها تسلية، بل كأدوات لإعادة إنتاج الذاكرة الجمعية وتثبيت معانيها.
لكن الإشكال أعمق من مجرد تأثير بصري. تاريخنا الإسلامي المبكر لم يُدوَّن لحظة بلحظة، بل بدأ تدوينه الحقيقي في العصر العباسي، حين أصبحت الحاجة إلى ماضٍ مؤسِّس أكثر إلحاحًا من توثيق صادق للأحداث. المؤرخون الأوائل، من ابن إسحاق إلى الطبري، كتبوا سيرًا وأحداثًا لم يشهدوها، في سياقات سياسية متغيرة، كان لكل منها روايته وأولوياته.
حتى شخصية مثل أبي هريرة، التي نُسبت إليها آلاف الأحاديث، لم تكتسب مركزيتها وأهميتها إلا في عهد معاوية ابن ابي سفيان.
أنا لا أطرح اتهامات، بل أسئلة ضرورية: من قرر أي رواية تُروى، وأيها يُنسى؟ هل كُتب التاريخ لحاجات ذاتية، أم استجابة لضرورات سياسية؟ وهل ما نعتبره “يقينًا تاريخيًا” هو في الحقيقة سردية تم تثبيتها، ثم تَقديسها بمرور الزمن؟
الإشكالية الأكبر أن الوعي بالتاريخ عندنا لا يُبنى على بحث علمي، بل على شعور رواياتي مشحون بالإيمان والهُوية. وهذا ما يجعل التاريخ في نظر كثيرين حقلًا مغلقًا، لا يُسائل ولا يُراجع. نريد من الدراما أن تؤكد يقيننا، لا أن تثير أسئلتنا. بينما المطلوب هو العكس: أن نفتح التاريخ على النقد، ونُحرّره من أسر التقديس الأيديولوجي.
التاريخ ليس نصًا سماويًا، بل سرد بشري، يخضع للسياق ويُعاد تأويله بحسب الحاجة. وإذا كنّا ندرّس الفتوحات الإسلامية كلحظة خلاص، فمن حق الآخر أن يراها غزوًا. لا جرم في هذا، بل وعيٌ بتاريخ متعدد الزوايا.
نحن بحاجة إلى قراءة لا تنفي الدين، لكنها لا تُخضعه للسلطة. قراءة لا تقدّس الروايات، بل تفككها، وتعيد النظر في منطق إنتاجها. قراءة تحمي الإيمان من الاستغلال، وتحمي التاريخ من التبجيل الأعمى.
إن الخروج من أسر الرواية الواحدة هو المدخل الحقيقي لبناء ثقافة حرة، تسائل ذاتها، وتعيد التفكير في رموزها. لسنا في حاجة إلى رموز جديدة، بل إلى أدوات جديدة للفهم. ولسنا مضطرين لتصديق كل ما رُوي لنا، بل لتحمّل مسؤولية الفهم والنقد.
لا قداسة بلا مساءلة، ولا وعي بلا شك. وهذا الشك لا يهدد إيماننا، بل يُعمّقه، لأنه يحوّله من طاعة إلى وعي، ومن أسطورة إلى تجربة إنسانية قابلة للفهم والنقد.