عيد زمان: بهجة الفوضى وحنين التعب الجميل!
عمان الان -د. مهند النسور
كثيرًا ما نردد العبارة الشهيرة: “أيام العيد زمان كانت أحلى”، لكن إذا تأملنا المشهد بتمعّن، قد نكتشف أن العيد قديمًا لم يكن مجرد فرحة ولمة عائلية، بل كان أقرب إلى مغامرة متكاملة الأركان؛ مزيج من الإثارة، الضغط، والانخراط في منافسات عائلية تكاد تُصنّف ضمن البطولات الأولمبية.
كل شيء يبدأ من ليلة العيد، اليوم الذي يفقد فيه الزمن اتّزانه، ويصبح الكل على عجلة من أمره. الأب، في لحظة حماسة مفرطة، يتخذ قرارًا بطوليًا باصطحاب الأطفال إلى السوبرماركت “للتخفيف عن الأم”، لكنه سرعان ما يكتشف أنه أوقع نفسه في فخ محكم. المكان مكتظ، العربات تتصادم، والمشهد برمّته أشبه بمسابقة “من يتمكّن من شراء أكبر عدد من الأغراض العشوائية في أقل وقت ممكن”. الأطفال يريدون شراء كل ما يلمع أو يُصدر صوتًا، والأب يحاول إقناعهم بأن العيد ليس موسم تموين… و لكن دون جدوى.
وعلى جبهة أخرى، تخوض الأم معركة “الملابس العيدية”. فتيات يُصررن على اختيار فساتين بألوان تتحدى قوانين البصر، وأولاد يطمحون إلى ارتداء بدلات رسمية تليق بمؤتمرات اقتصادية، بينما يحاول الوالدان الجمع بين الذوق والميزانية دون انهيار أعصاب أو إفلاس مبكّر.
ثم تأتي مرحلة تنظيف المنزل، التي تُعامل وكأن هناك تفتيشًا وزاريًا طارئًا. الكل يُجند في هذا المشروع الوطني: الشُبابيك يجب أن تلمع، السجاد يُنظف وكأنه سيُعرض في مزاد، وحتى النائم لا ينجو، إذ يُستدعى فورًا للمشاركة في المهام!
وفي الصباح، يبدأ العيد بزيارة المقابر، حيث يمتزج الحنين بالهدوء، ويتسابق الأطفال بين القبور وكأنهم في مغامرة استكشافية، فيما الكبار يسترجعون ذكريات الغائبين. لا تخلو الزيارة من توزيع الحلويات، لكن بعض الأمهات – مثل والدتي رحمها الله – كانت تعتبر “الغريبة” تحديدًا حلوى غير مرحّب بها، وكأنها فأل شؤم يُعكّر صفو العيد.
ثم يبدأ ماراثون الزيارات العائلية، وهو سباق اجتماعي لا يرحم. من بيت إلى آخر، نُعيد نفس الجمل: “لسه شايفينكم!”، “يلا نشرب قهوة!”، “لازم نكمل باقي الزيارات!”، لتتحول المعدة إلى مستودع للكعك والكافيين، ويصبح اليوم بأكمله اختبارًا لقدرة الجسد على الصمود. ولا ننسى ايضا ضرورة حضور مسرحيات “العيال كبرت” و”مدرسة المشاغبين” حيث كانت جزءا رئيسا من طقوس الأعياد.
أما العيديات، فتمثّل التحدي الاقتصادي الأبرز في حياة العائلات. مبلغ العيدية يجب أن يكون محسوبًا بدقة: لا مبالغ فيه فيُحرج الآخرين، ولا قليل فيُشعل نار المقارنات العائلية. الأطفال، من جهتهم، يديرون العملية بذكاء مدهش، يسعون لجمع أكبر رصيد ممكن قبل أن يتدخل أحد الوالدين بجملة: “هخبّيهم لك للمستقبل”… مستقبلٌ لم نره حتى اليوم!
ومع غياب التكنولوجيا، كانت شبكة الرصد العائلي تُدار يدويًا. لا وجود لـ “واتساب” أو “ستوري إنستغرام”، بل أطفال صغار يتحولون إلى مراسلين ميدانيين، ينقلون أخبار الزيارات وتحليلات دقيقة عن الحضور، تُعرض لاحقًا في اجتماعات عائلية مصغّرة تشبه موجز الأخبار العاجلة.
وبين كل هذا الضغط، كانت هناك لحظة إنقاذ مقدّسة: الشاورما! ففي الماضي، كان يُعاد تسخين طعام الليلة السابقة، لكن اليوم، باتت الشاورما خيارًا دبلوماسيًا يُرضي الجميع، يحلّ معضلة “الطبخ في العيد!”، وينقذ العائلة من الصراع الأزلي بين الرغبة في الراحة والحاجة إلى الطعام.
لكن، مع كل هذا الجهد والضجيج، حين تمر أيام العيد ونعود إلى روتين الحياة، نكتشف أن تلك اللحظات التي كانت تُتعبنا، هي ذاتها التي نضحك عند تذكّرها. العيد لم يكن فقط لباسًا جديدًا أو كعكًا منزليًا، بل كان فوضى جميلة، ذكريات لا تُنسى، وضحكات ما زالت ترنّ في ذاكرتنا.
مع المساء وانتهاء موجة الضيوف، تجد الأسرة نفسها منهكةً لكنها راضية البال. سنواتٌ مرّت، لكن تفاصيل تلك الأيام بكل مشقتها ومرحها بقيت حيّةً في الذاكرة. قد يكون عيد اليوم أكثر راحةً وتنظيمًا، لكن عيد زمان كان مدرسةً للفرح العفوي وروح العائلة الواحدة. جمال تلك الذكريات رغم تعبها يضيء قلوبنا ويذكّرنا بأن بهجة العيد الحقيقية في تلك اللحظات البسيطة الصادقة.